هو سيد الإحساس والعود واللحن الذي تناقلته الأجيال.وهو الوحي الذي جعل مبدعي التوزيع يتنافسون في إعادة توزيع ألحانه التي انتشرت في كل البلدان. هو درويش الأغنية التي جعلت النُخب تُغني مع" الحلوة التي قامت تعجن في الصبحية". ومع قطرات العرق فوق جباه الصناعية، وهو" زوروني كل سنة مرة"، التي سمعها ذات يوم من حنجرة أم تسأل عن ابنها، فجعلها أغنية العالم العربي كله. هو السيد في الموهبة التي أثرى بها التراث الموسيقي، وهو الدرويش بحبه للشعب والعمال والوطن، وهو أيضا اللحن الذي أصبح النشيد الوطني لبلده مصر حتى اغتالته الإشاعات.. كيف مات؟
شاب في الواحد والثلاثين من العمر، يحمل العودسلاحاً ويحارب بالأغنية الاحتلال.
هل هي المخدرات كما قالوا أم هي جريمة اغتيال؟ نسأل التاريخ عن صاحب تلك المشاعر العفوية القادرة على جذب الناس بمختلف فئاتهم من العمال والبسطاء الى المثقفين والاغنياء، نسأل.. لكن لسؤالنا المحّدد، هناك ألف جواب.
لنعود في التاريخ إلى يوم 17 سبتمبر 1923،حين كانت مصر تستعد لاستقبال الزعيم سعد زغلول بعد سنتين من النفي،حيث أقيم له احتفال كبير في الإسكندرية، واجتمع في استقباله كل المثقفين والصحفيين والأدباء والشعراء والسياسيين ، وهناك كانت أغنيات الوطن تشدو فرحا بعودته. وهناك أيضاً كانت أغنيات السيد الدرويش وقد أعدت خصيصا للمناسبة،"مصرنا وطننا وسعدها أملنا"وأغنية "بلادي بلادي"، وفجأة التفت الزعيم ليسأل أين سيد هذه الأغنيات الجميلة، وهو شريك مؤثر في بث الروح الوطنية؟ وهنا كان الجواب المرعب، السيد، مات.. كيف ذلك ومتى !؟ قالوا له هي بضع ساعات، أي قبل وصول بطل الثورة سعد زعلول بساعات. مات بطل الأغنيات!
هل نسأل المخدرات التي كانت مباحة في ذلك الوقت، أم نسأل المخابرات التي تخشى رصاص الأغنية أكثر من رصاص الرشاشات؟
نبدأ بالمخدرات، تقول الرواية أن مادة الحشيش كانت متداولة جدا في تلك الحَقبة، ولكن هل يمكن لمتعاطي هذه المادة أن يموت؟ يجيب العلماء الألمان، في نتائج كشف طبي لفريق متخصص عام 2014 في مستشفى (دوسلدوف الجامعيّ): أن مادة الحشيشة قد تسّبب الوفاة، لكن الآلية التي تسّبب بها الوفاة، لم يتم التوصل بعد لحلّها. وبحسب الكشف الذي تم الإعلان عنه ،. يقولون هناك أدلة قوية وبراهين تثبت دور هذا المخدر في رفع فرص الاصابة بأمراض القلب الخطيرة، والاصابة بالاكتئاب وضعف الذاكرة وحتى السرطان. لكن لا يوجد دليل أن سيد درويش وهو الشاب الوطني المبدع كان مصابا بأي من هذه الأمراض. ومنهم من يُصر على أنه كان يتعاطى مادة الكوكايين وهي التي قتلته. نعود للعلماء، ونسأل كيف يمكن لمادة الكوكايين أن تقتل؟ الجواب الأكيد نعم الكوكايين يؤدي إلى سرعة ضربات القلب غير الطبيعية وارتفاع في ضغط الدم ، مما قد يهدد الحياة.
نعود لنسأل :هل هناك دليل على أنه كان يتعاطى هذه المواد لدرجة تعرض حياته للموت؟ تتناقض الأجوبة ويبقى اللغز المحيّر، الذي لم يحسم حتى اليوم. مات السيد درويش وترك لنا إرثاً كبيراً من التراث الجميل والألحان الخالدة، وبقيت الشائعات تلاحقه والحقيقة ضائعة.
لو عدنا الى مصر في تلك الحَقبة عام 1923 الذي كان عاماً مميزاً دستوريآً.. حيث تمّ في ذلك العام وضع دستور جديد، وهو الذي جعل مصر ملكية وراثية وشكلها نيابي. جاءت تلك التغييرات بعد العام 1919، الذي شهد سلسلة من الاحتجاجات الشعبية على السياسة البريطانية في مصر عقب الحرب العالمية الأولى، بقيادة حزب الوفد المصري الذي يرأسه سعد زغلول، نتيجة لتذمر الشعب من الاحتلال البريطاني. بالإضافة إلى إلغاء الدستور وفرض الحماية.
ونسأل لماذا لا تكون هنا الحكاية؟ الاحتجاجات والتظاهرات كان يقودها سعد زغلول، لكن روح الثورة كانت ألحان وأغنيات تثري القلب والروح تمسكاً بعبق الحرية ورفضاً للاحتلال. ألا يمكن أن يكون موت سيد دوويش وفي نفس يوم عودة سعد زغلول منتصراً بعد النفي، وبعد أن أعّد له السيد ألحاناً تتغنى بالنصر وبسَعدها وبمصر، أليس هناك احتمالً أن يكون موت ابن الواحد والثلاثين عاماً، اغتيال؟ نعم ، ممكن خاصة وأن هناك دليل.. وهو رغبة أهله في تشريح الجثة ورفض الاحتلال لهذا الطلب. ويبقى السؤال مخدرات أم مخابرات؟ رسمياً.. لا جواب.
د. ندى أحمد جابر
كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية