هو بين الشهور في الكتاب (أيام معدودات).. أيام رمضان ننتظرها كل عام، تضج المواقع بالتبريكات. أقبل شهر الخيرات، هكذا قال الأجداد اغتنموا من خيرات هذه الأيام المباركة.. الخير كان يعني في زمن ما قبل الكهرباء.. سجود ودعاء.. ونَفحات تَغسل عن
قلوب الصائمين رتابة أيام لا تُعد. وهي تدريب الإرادة على القوة، كي لا تضعف وتفقد صلابتها أمام مطبّات الهوى، نصوم كي نكتشف ذواتنا ونرقى في صلاتنا إلى ما هو أبعد من السجود..التراحم والتلاقي ومساعدة المحتاج والترفّع عن الأحقاد والتسامح مع الغير والتسامح مع الذات. لكن، مفهوم شهر الصوم في زمننا تغيّر.. صار شاشات ومسلسلات وخِيَم، وأنا لست ضد الترفيه ،بالعكس من جماليّات الشهر أنه يجمعنا بالأصدقاء والأهل. لكن لا يجب أن ننسى حكمة الصيام.. وهذه الحكمة موجودة في كل الأديان.. وفي نظرة سريعة على مفهوم الصيام في باقي الأديان والمعتقدات، نجد أنه في الإسلام صيام عن كل طعام من الفجر الى المغرب..
وهو في المسيحية صيام عن أطعمة دون أخرى ،وهذا التقليد جاء عن نصوص إنجيلية تقول إن المسيح اعتكف40 يوماً يصوم ويصلي ويزهد في طعامه تَقرّبا الى الله.
أما في اليهودية ،فلهم عدة أعياد يصومون فيها. والأهم "يوم كيبور" أي يوم الغفران، وهي مصالحة الإنسان مع الله. وفي عيدهم الأهم يصوم اليهود 25 ساعة دفعة وحدة. ويعتكفون خلالها ويتخلون عن كل ما يشغلهم عن العبادة حتى عن العمل. وفي يوم (كيبور) تتوقف الحياة العامة في البلاد، وتبدو للغرباء كأنها متجمدة. وفي الطريق لا تسير سوى سيارات الإسعاف والشرطة.
أما الهندوس ،وعلى عكس الديانات التوحيدية الثلاث ،لا توجد قواعد ثابتة للصيام. وهو في الغالب قبل الأعياد الكبرى وهي مقتصرة على المعلمين والزاهدين. وهم يحظون بتبجيل جليل من قبل الهندوس. أما البوذية، فهي تتشابه مع الهندوسية من ناحية اقتصارها على الزهّاد والمعلمين.
كما أن الصيام موجود في ديانات المايا والأزتيك وشعوب أستراليا الأصلية.
وهناك صيام غير ديني تقوم به جماعات تُعنى بالبيئة وبصحة النفس والجسد معا، ومنها جماعات شبه دينية تؤمن بعلاقة الجسد والروح بالطبيعة المحيطة وهؤلاء يمارسون صيامهم الخاص.
وهناك الصيام الصحي الذي ينصح به الأطباء واختصاصيو التغذية ومنها الصيام المتقطع ،وهناك أيضا الصيام عن الكلام.. وهومن الشعائر القديمة الذي وجد فيه بعض المدربون على تطوير الذات فائدة كبيرة، علما أنه ذُكر في كتاب الله.
لكن الصيام الديني تشترك في حكمته كل الأديان، فهو بالإضافة الى الفائدة الصحية له أهداف أرقى روحية تتشابه تقريباً فيما بينها. وهو أحد القواسم المشتركة في الأديان كلها ويعتبر كفّارة للذنوب، وهناك الحاجة "للتقليص وتركيز الحياة على كل ما هو أساسي" حيث يشرح (توماس ليمين) المسؤول عن الحوار بين الأديان في أبرشية الروم الكاثوليك في مدينة كولونيا إذ قال في مقابلة مع محطة DW: "إن الأمر يتعلق باكتشاف أبعاد جديدة في حياة البشر واكتشاف العلاقة مع الرب ".
الخلاصة أردت من هذا التوضيح الرد على من يتهم الصائمين المتعبدين بما ليس فيهم.. هم قوم أحبوا الله وصدّقوا ما جاء بالكتاب.. فصوم رمضان تَقرباً الى الله لنَغسل عن هذه الروح أثقال الجسد.. ويحلو في هذه الأيام التعبّد والسجود تماما كما يحلو السهر مع الأهل والأصدقاء .هي أيام معدودات تمضي بسرعة، فاغتنموا منها جمالها وعيشوا أجواء فرح الناس بها.. ولا تنسوا حكمة الصيام.
أيام معدودات في تدريب الجسد على الصمت، حيث للروح حديث يريد الله أن نُصغي إليه.. ولا يكون ذلك الا إذا صُنت أذنك بعيداً عن أي تلوّث سمعي.. لا نميمة ولا اغتياب ولا أذى.. لتتسلق في معراج أكبر وترتقي في حب أكبر.. والحديث عن المعارج ليس فقط حديث الزاهدين والمتصوفين.. بل هو حديث العاقلين الذين هم على يقين بيوم تشخص فيه الأبصار.. الصوم خطوة في طريق ترتقي بك فوق أهواء جسد من طين.. وقد تَوضَح لنا مما سبق أن حكمة الصوم وإن اختلفت طرقها موجودة عند المؤمنين وغير المؤمنين..
اشكروا الله على نعمة رمضان.. ولا تنسوا نعمة الدعاء.. ووعد الله بالإجابة، وليلة هي خير من ألف شهر.. خير من ألف عمر.. وما العمر سوى (أيام معدودات)..
ندى أحمد جابر
كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية
