ينجح المسرح عندما يحرك مسرح الأفكار ، عندما يدفعك إلى ضجيج داخلي تحتاجه لتقضي على هذا الهدوء القاتل الذي يجعلنا نقبل بكل شيء طمعاً فقط بالبقاء في هذه المساحة التي تشبه وطناً ، ولكنها ليست كباقي الأوطان . عندما تشاهد عملاً مسرحياً يُعرف بالكوميديا السوداء تخال أنك ستمضي ساعة من الوقت فيها من الترفيه والضحك وبعض الرسائل، هذا على كثرة ما نرى من تجارب لا نقول أنها مسرحيات ، وتخرج كما دخلت ، لا شيء يعلق في الذاكرة او يحفز المشاعر أو يجعلك في حالة من التساؤل ، من نحن وكيف نفكر ولماذا نعيش ووو....؟؟
بالأمس شاهدت عملاً مسرحياً تحت عنوان "شو يا قشطة " على مسرح مونو ، بنيت توقعاتي على العنوان ـ قد يكون عملاً يستخدم الإيحاءات الجنسية والعناوين الصادمة ليجذب الطعم أي (نحن)، وقد تكون الكاتبة مرت مرور الكرام على موضوع التحرش الجنسي فقط ، لتقول أن مسرحيتها هادفة وأنها تحمل على عاتقها عبء إصلاح المجتمع وتغيير الذهنية .
"شو يا قشطة " مسرحية تروي قصص التحرش الجنسي بمنتهى الواقعية والجرأة على لسان 3 ضحايا يلجأن إلى طبيبة نفسية للمعالجة ورواية حكاياتهن الموجعة والمغلفة بنفحة من الكوميديا ، لنكتشف في سياق العمل أن الطبيبة سينتيا كرم هي أيضاً ضحية ، ضحية الوجع الذي تخلفه قصص مريضاتها، والمفاجأة المتمثلة باكتشاف مغتصب ابنتها في نهاية المسرحية . الكاتبة والممثلة وفاء حلاوي تماهت في مسرحها كتابة وتمثيلاً ، صاغت نصها كما لو كان كرسي اعتراف ، أرادت لضحاياها أن يكن في منتهى الصدق في بوحهن بأسرارهن ، بمشاعرهن ، بمخاوفهن ، ومع هذا الكم من الإعترافات كان لا بد من إقحام الكوميديا بطريقة ذكية لكي لا نغرق في سوداوية الشخصيات ، فضحكنا وبكينا وكان هذا التلاصق الجميل الذي يطمح إليه كل صناع المسرح وجمهوره.
سينتيا كرم ، وفاء حلاوي ، كايتي يونس وسلمى شلبي أحدثن ثورة نسائية على المسرح ، فجّرن مكنونات النفس المكبوتة ، خرجن من سجن الضوابط الإجتماعية سعيا لتحرير أجسادهن من قرف التجربة المريرة ، اتكأن على كتف بعضهن البعض بحثاً عن مساحة الأمان ، تناقشن في كيفية الخروج من شرنقة القشطة وقشورها ، أقحمن الجمهور في لحظات إنسانية غامرة بالتعاطف، لعّل ذروتها كانت من خلال الدموع الحقيقية التي اختتمت بها كل واحدة حكايتها ، ولم تكن تمثيلاً!
3 ضحايا روين قصصهن من قلب مكعباتهن الملونة في إشارة رمزية إلى السجن والشرنقة ، من يومياتهن وذكرياتهن المجبولة بكره الذات ومعاداة الجسد ومعاناته. تطرقن إلى قانون الحماية من التحرش الجنسي في لبنان وما شابه من تشويه في مجلس الذكور (النواب ) ، من خلال تجربة طالبة تتعرض للتحرش من أستاذها في الجامعة وتبدأ في اكتشاف فتاوى القانون 205 الذي يرمي إلى تجريم التحرش الجنسي والصادر عام 2020 في لبنان .
أجمل ما في هذا العمل المسرحي صدقه وبوحه ودفق مشاعر شخصياته ، يأتي المشهد الأخير ليغسل بالمطروالدموع أوجاع نسائه ، تخرج كل ضحية من علبتها التي لم تغادرها مرة ، لتبدأ رحلة اكتشاف الذات والثورة والتصالح مع الجسد .
حسنا فعلت المنتجة ميشال فينيانوس والكاتبة وفاء حلاوي في تسليط الضوء على مشكلة شائعة ولكنها مغلفة بأوراق السيليكون ، لم تبخلا عليها بأعلى سقف للجرأة ، رفعتا السقف إلى ابعد حدود، ونجحتا مع عدسة المخرج رياض شيرازي في تقديم عمل له خلطته السحرية ، مضحك ومبك ، هادف ومسل ، ذكي ومؤثر .