في العام 1988، تمّ إنتاج مسلسل "اللقاء الثاني "، وهو عبارة عن حلقات متّصلة منفّصلة ،تتناول قضيّة اللقاء الثاني بين الأشخاص أو بين رجل وامرأة بالتحديد. وقد حصد هذا المسلسل نجاحاً كبيراً بسبب صدق التناول الذي لم يبتعد عن الحياة الإجتماعيّة ،فغالباً ما
نلتقي بأشخاص بعد أن ظنّنا أننا لن نلتقي بهم ثانية ،ولكن اللقاء الثاني يكون مختلفاً، فتزول الإنطباعات الأولى أو تنتهي الأوهام .وفي كل حالة، فأنت أمام تغيير كبير مع هذا اللقاء الذي حدث بعد سنوات ،تغيّرت وتبدّلت فيها أحوال الطرفين، وباعدت المسافات بينهما، وإن عاش كل طرف على ذكرى جميلة، إلّا أنّ اللقاء الثاني يمحو هذه الذكرى أيضاً أمام الحقيقة المريرة.
غالباً ما يأتي اللقاء الثاني طالما أنّ الدنيا "دوّارة " ، وكما يقولون بأنّ " مصير الحي يتلاقى" ،فاستحالة اللقاء لا يفعلها إلا الموت، وحتماً سوف ترتّب الأقدار لقاءً ولو بطريقة مختلفة وغير متوّقعة، وإن كانت مواقع التواصل الإجتماعي قد أسهمت اليوم بتوفير أرض خصبة لهذه اللقاءات ،فهي يجب أن تُشكر مرّة وأن يُنكر معروفها مرّات ومرّات، لأنك غالباً سوف تشهق وتقول في سرّك " سبحان مغيّر الأحوال".
جمعتها به الجيرة ،وكان ابن الجيران الأسمر الخجول . ولكن هناك فارق بينهما جعله يكتفي بأن ينظر إليها من بعيد .فهي جميلة ذلك الجمال المبهر الذي يدير الرؤوس ،والذي جعل كلّ من يراها يخطب ودّها .وقد أصيبت بغرور قاتل جعلها مثل الدبّة التي تقتل صاحبها ،ولكنها قتلت نفسها حين أساءت اختيار الزوج ،حيث فكّرت بالزوج الثري الذي سوف يغذّي جمالها ويوّفر لها كلّ سبل العيش المرفّهة التي تجعلها تبدو كما هي في بيت أبيها جميلة وأنيقة، أمّا هو، فقد نشأ في أسرة كثيرة العدد لأب فقير ،وإن لم يمنع ذلك أن يكون الأب حريصاً على تعليم أولاده، مهما كلفه الأمر من تعب ومعاناة.
حين أنهى البكالوريا ،كتب لها ورقة صغيرة أرسلها مع طفل من أبناء الحي الذين يركضون هنا وهناك.قذف في فمه بقطعة حلوى وطلب منه أن يدّس الورقة في يدها ،وهي تعبر الطريق إلى باب بيتها وحيث كان يراقب المشهد من بعيد، وحين فتحت الورقة رأته قد كتب فيها بخط خجول يفوح حبّاً طفوليّاً سخرت منه في أعماقها " من أجلك، ومن أجلك فقط أسافر إلى المانيا".
تركته يسافر وانخرطت في حياتها التي تحوّلت إلى مأساة بسبب زواجها من رجل أناني ومغرور، اعتبرها دمية قد اشتراها بماله، وسرعان ما زهد بها وأصابه الملل من النظر إلى مفاتنها. ووجدت نفسها تعيش كقطعة أثاث في بيته مع حفنة من الأطفال جاؤوا في غفلة منها، وهكذا لم تعد تذكر في حياتها سوى ذلك الذي سافر من أجلها.
قررت أن تتابع أخباره ، وعرفت أنّ دراسته قد تعثّرت لعامين حتى استطاع أن يضع قدمه على أوّل درجات الدراسة الجامعيّة العليا، بسبب صعوبات اللغة التي واجهها ،وحين كانت تمرّ السنوات عليها وهي قطعة أثاث تتحوّل يوماً بعد يوم إلى تحفة أثريّة، سمعت أخبار عودته إلى أرض الوطن وإعلانه عن افتتاح أكبر مركز طبّي علاجي في تخصّصٍ نادر. وما إن وقعت عيناها على صفحته الألكترونية على موقع التواصل الاجتماعي " فيس بوك" حتى قرّرت أن تكتب له رسالة خاصّة ومختصرة .وهكذا كتبت له: أنا التي سافرت من أجلها، ومن أجلها فقط إلى المانيا".
تركت الرسالة لأيام طويلة، ولم تظهر أيّة إشارة إلكترونية أنّها قد وصلته ،وعاشت على أمل زائف أنّه ربما قد يراها فيرتجف قلبه حنيناً، وفاتها أن تتصّفح صفحته الألكترونية لترى صوره مع عائلته التي كوّنها متأخّراً لانخراطه بالدراسة والتحصيل العلمي الرفيع. وبعد أيام من الانتظار، وهي تسأل نفسها ماذا تنتظر، لتكتشف فقط أنّها تريد أن يرّد عليها ،بأنها لا زالت ذكرى جميلة في حياته كما هو اليوم في حياتها، ولكن جاء ردّه صادماً ولقاؤها الثاني به أزال الغمّة من أمامها حين كتب لها : أنا لم أسافر من أجل أحد لا أعرفه، أنا سافرت من أجل أبي رحمه الله، أرادني ان أصبح طبيباً لامعاً وقد فعلت...