بعد غياب امتد لسنوات خمس ، عادت فرقة كركلا إلى المسرح اللبناني والعربي بعمل قديم جديد عنوانه "فينيقيا الأمس واليوم ". ورغم أنّ عبد الحليم كركلا يستعيد مع ولديه إيفان وإليسار عمله هذا ، الذي سبق وأن قّدمه عام 2018 في مهرجانات بيبلوس بعنوان "فينيقيا الماضي والحاضر "، إلاّ أنه يؤكد مّرة أخرى على أنه يبقى رائداً للمسرح الراقص اللبناني خصوصاً والعربي عموماً ، لناحية محاكاته البعد التراثي اللبناني التاريخي ، وانكبابه على القرية اللبنانية عادات وتقاليد وأخلاقيات، تتنافى ربما مع الواقع اللبناني الحالي ، حتى الريفي منه ، الغارق في إنكار للعادات والتقاليد الموروثة والضارب في المادّية والنزاعات على شتى أشكالها وأنواعها واتجاهاتها .وحسناً فعل عبد الحليم كركلا حين سلخنا عن واقعنا طيلة مدة العرض ، ليعود بنا إلى زمن لبناني سعيد لا يزال حيّاً في ذاكرتنا الجماعية وفي وجداننا ،ولو أنّه غائب عنّا في الواقع .
لقطة من مسرحية "فينيقيا الأمس واليوم "
احترافيّة كركلا وفرقته تأكّدت مرّة أخرى في عمله هذا ، سواء لناحية الكوريغرافيا والسينوغرافيا والمشهّدية المتقنة ، هذا فضلاً عن الوقفات الكلامية التعبيرية التي جاءت متناغمة مع مشهّدية الريف كي تؤكد هذا الإنفصال بين واقع مرفوض وماضٍ مشتهى .
وتأكيداً على هذه التجاوزية الزمنية والمكانية ، استعان كركلا بوجوه فنية منتمية للزمن الريفي ومرتبطة بالذاكرة اللبنانية الأولى، أمثال جوزف عازار ، هدى حداد ، رفعت طربيه ، سيمون عبيد وغيرهم ، فضلاً عن الاحترافيّة التمثيلية التي جّسدها غابريال يمين في دور الماركيز أبو فضلو .
الحب الممنوع او المكبوت ، عنوان رافق العمل في جزأيه ، الجزء الأول في قالب احتفالي تاريخي يعكس الحضارتين الفينيقية والفرعونية من خلال قصة زواج ربطت بين سيديروس ابنة الملك الفينيقي أحيرام وأمون ابن الفرعون رمسيس الثاني .
هذا الزواج الملكي لم يطغ على الحب الذي تكنّه الأميرة لشاب من بلدها ، مما دفع بها إلى الهرب من مصر والعودة إلى وطنها وحبيبها، حيث تأكدت مجدّدا المقولة التي مفادها أنّ الحب في النهاية هو المنتصر .
وانتصار الحب هذا، سُجل مرّة أخرى على مسرح كركلا ولكن هذه المرّة ضمن أجواء قروية لبنانية تقترب من الكوميديا في محاولة "هندومة " (هدى حداد ) تزويج ابنتها إلى فضلو ابن الماركيز "أبو فضلو " (غابريال يمين ) مدفوعة بالطمع بثروته وبأملاكه الشاسعة ، لكن العروس هذه المرّة أيضاّ ، وفي استعادة مضمونية للمشهد الفينيقي الفرعوني ، ترفض تزويجها بمن لا تحب، وتهرع في مشهد رومانسي ثنائي راقص ومؤثر إلى حبيبها .
هدى حداد في دور "هندومة " والفرقة الراقصة
ثمة تأكيد في العمل على القيم الريفية التي تأبى النزاعات وتأنف الخصومات وتحّن إلى التعايش والألفة والمحبة في تأكيد ضمني على الحقيقة اللبنانية كما يراها كركلا ، و سعيد عقل "الحاضر صوتاً في نهاية العمل "، وسواهما من المبدعين اللبنانيين الذين أكدوا على لبنان الحب والسلام والفرح والرسالة .
ولا نخال كركلا غافلاً عن واقعنا اللبناني الحالي ، ولكنه ، في تجديده عمله هذا ، نراه متقصّداً إغفال هذا الواقع الذي يراه ربما آنيّاً ومجرد غمامة سوداء لا بد أن تنزاح يوماً لتظهر من بعدها الحقيقة اللبنانية في جماليتها الريفية المميّزة، إنساناً وطبيعة التي لطالما أبرزها كركلا في مسرحه .أخيراً، يبقى أن كركلا هو هو دائماً هذا النبض اللبناني المسموع احترافا وجمالية وابداعاً ، والذي يبقى متوهّجاً في تاريخ هذا الوطن وحاضره ومستقبله .
الحب الممنوع من لوحات مسرحية "فينيقيا الأمس واليوم"
لقطة من مسرحية "فينيقيا الأمس واليوم "